تحرير قطاعِ الكهرباء... مُفتاح الخروج من الأزمة
لا يظّنن أحد أن ساعات التغذية التي ينعم بها المواطن حاليا، هي نتاج تحسين لوضع الكهرباء المزري أصلا. فهذه الساعات لها كلفة وهي كلفة كبيرة، نظرا إلى أنها تعتمد النظام نفسه الذي عملت عليه مؤسسة كهرباء لبنان لعقود. وإذا نظرنا إلى مستحقات الحكومة العراقية على الدولة اللبنانية ثمن الفيول المستورد، لوجدنا أن الفاتورة أصبحت كبيرة على الدولة (ما يوازي ملياري دولار أميركي بالليرة اللبنانية). ولا نعلم حتى الساعة خطّة الحكومة اللبنانية لدفع هذه المستحقات، التي تتراكم يوما بعد يوم. بالطبع لن أعود بالذكر على عشرات المليارات من الدولارات (أكثر من 48 مليار دولار أميركي) المهدورة في قطاع الكهرباء، والتي لم ينتج منها قطاع على القدر والقيمة ، كفيل بتقديم الخدمات للمواطن اللبناني، في حين أن أربعة مليارات دولار أميركي كانت كافية لبناء أحدث معامل الإنتاج، التي تكفي لبنان من الكهرباء 24/7.
النموذج المعمول به هو نموذج أثبت فشله (أقلّه إذا نظرنا إلى النتائج)! وبالتالي هناك ضرورة قصوى لتحرير هذا القطاع من سلطة الدولة، وإشراك القطاع الخاص القادر على المساهمة في هذه العملية بشكل فعّال. ويُذكرنا التاريخ أن المرأة الحديدية مارغريت تاتشر قامت في ثمانينيات القرن الماضي بتحرير قطاع الكهرباء (الإنتاج، النقل، والتوزيع)، وانخفض بذلك سعر الكيلوات ساعة، ليصبح الأقل في العالم نتيجة التنافسية العالية. حتى إن سعر الكيلوات ساعة أصبح يُتداول بالبورصة في لندن.
لا يَخفى على أحد أن عملية تحرير قطاع الكهرباء في لبنان موضوع معقد ومتشابك بشكل كبير مع الأزمات الاقتصادية والسياسية المستمرة. فمؤسسة كهرباء لبنان تحتكر توليد ونقل وتوزيع الكهرباء، مما أدّى مع سوء الإدارة والفساد ونقص الإستثمار، إلى خلل هيكلي في تقديم الخدمة إلى المواطن، مع كلفة عالية جدا بلغت عشرات مليارات الدولارات بحسب تقرير «ألفاريز آند مارسال». وفشلت الشركة في توفير الخدمة بشكل منتظم وصل بعض الأحيان إلى حدّ الانقطاع الكامل.
إلى جانب مؤسسة كهرباء لبنان، ظهرت المولدات الخاصة بحكم وجود قصور لدى مؤسسة كهرباء لبنان، وفرضت نفسها خلال عقدين من الزمن، حتى عادلت في مرحلة من المراحل قدرتها الإنتاجية قدرة مؤسسة كهرباء لبنان. مشكلة هذه المولدات أنها غير منظمة ولا تعترف بها الدولة، وتخلق مصالح راسخة في بعض الأحيان.
من هنا، تأتي أهمّية تحرير قطاع الكهرباء بهدف زيادة الكفاءة التي سترتفع، مع اشتداد المنافسة التي ستجلب استثمارات وخبرات يحتاج اليها القطاع وتحسين الموثوقية، من باب تنويع مصادر الطاقة وعديد مقدّمي الخدمات، والتقليل من الاعتماد على جهة واحدة. أيضا من مبررات تحرير القطاع، الحدّ من الفساد من خلال الشفافية والمساءلة والرقابة والتنظيم عبر الهيئة الناظمة للقطاع. أضف إلى ذلك هناك حجّة قوية ألا وهي تقليل الاعتماد على الطاقة الأحفورية.
في المُقابل، هناك تحدّيات يجب العمل على تذليلها، على رأسها المصالح الراسخة القوية والصراعات السياسية. يلي هذا تحدّي إنشاء إطار تنظيمي قوي ومستقلّ، وهو شرط أساسي لضمان المنافسة العادلة وحماية المواطن وتعزيز الطاقة المستدامة. وهنا يجب الأخذ بعين الاعتبار الفئات الاجتماعية الضعيفة، التي قد تتأذى في البداية، ويمكن دعمها من خلال مساعدات عينية.
وبالتالي، ومن خلال عملية التحرير هذه يمكن تحقيق تحسينات كبيرة في هذا القطاع، لكن في المقابل هناك حاجة الى تخطيط دقيق وإرادة سياسية قوية والتزام بالشفافية والمساءلة. لكن هل من نموذج يمكن اتّباعه لتحرير قطاع الكهرباء؟
في الواقع يعتمد النهج الأمثل الواجب اعتماده على الإطار القائم في لبنان (المشهد السياسي، الظروف الاقتصادية، البنية التحتية القائمة). وبالتالي يُعتبر النموذج الهجين هو الأفضل من ناحية قدرته على الموازنة بين المنافسة والرقابة التنظيمية القوية. هناك عدّة جوانب إصلاحية في قطاع الكهرباء يفرضها نموذج التحرير هذا:
- أولاً : فك الارتباط والتحرير التدريجي في شق التوليد والنقل والتوزيع. على صعيد التوليد، ينبغي فتح المنافسة والسماح لمنتجي الطاقة المستقلين بدخول السوق، مع إعطاء الأفضلية للطاقة المتجدّدة. وعلى صعيد النقل، يجب الحفاظ على شبكة النقل كاحتكار منظم، يمكن أن يكون تحت إشراف مؤسسة منفصلة ومستقلة، ما يضمن استقرار الشبكة ويجنّب التجزئة. أمّا على صعيد التوزيع، فيجب إدخال المنافسة تدريجيا من خلال امتيازات إقليمية مثلا، وهو ما يسمح بتحسينات الخدمة المحلية.
- ثانياً : تعيين هيئة ناظمة للقطاع، تكون مستقلة قوية وذات صلاحيات واضحة وموارد كافية، وتكون مسؤولة عن تحديد التعريفات التي تعكس الكلفة الحقيقية للكهرباء، ومسؤولة أيضا عن إصدار التراخيص، وإنفاذ اللوائح، ومراقبة المنافسة في السوق، ومنع السلوكيات المناهضة للمنافسة، وضمان حماية المستهلك، وتعزيز الوصول الشامل الى الكهرباء، والإشراف على الانتقال إلى الطاقة المتجددة.
- ثالثاً : إعتماد الشرْكة بين القطاعين العام والخاص، لجذب استثمارات وخبرة القطاع الخاص على المنصّة العامّة، حيث من الضروري أن تكون هذه الشركة تحت مجهر الرقابة في ما يخصّ الشفافية والمناقصات في عقود الشرْكة، مما يعني ضرورة وضع مقاييس أداء واضحة وآليات مراقبة دقيقة.
- رابعاً : تنفيذ التحرير عبر اعتماد نهج مرحلي، يبدأ بمشاريع تجريبية في مناطق يتمّ اختيارها، وهو ما يسمح بالتعلم التدريجي والتكيف، وتقليل خطر الاضطرابات (مثلًا البدء بقطاع التوليد ثم الانتقال إلى التوزيع).
- خامسا : إعطاء الأولوية لدمج مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في الـ Mix كهرباء ، وتقديم حوافز لتطوير الطاقة المتجددة، وتحديث الشبكة لاستيعاب التوليد الموزع ومصادر الطاقة المتجددة المتقطعة.
- سادسا : أخذ الاحتياطات اللازمة لحماية الفئات الاجتماعية الضعيفة من تأثير زيادات التعرفة، والنظر في الدعم المستهدف للأسر ذات الدخل المحدود، كما وضمان الوصول الشامل إلى الكهرباء، بغض النظر عن مستوى الدخل.
- سابعا : يُعتبر تعزيز الشفافية والمساءلة في جميع جوانب عملية التحرير، بما في ذلك تحديد التعريفات والترخيص، ومنح العقود عنصرا أساسيا في نموذج التحرير المطروح، وهو ما يفرض إنشاء آليات للمشاركة وضمان مساءلة جميع الجهات الفاعلة في قطاع الكهرباء.
الإطار العام في لبنان يفرض الأخذ بعين الاعتبار عددا من المعطيات، مثل الاستقرار السياسي والأمني، ومكافحة الفساد، واستدامة النموذج المالي، وضمان استثمارات لإعادة تأهيل البنية التحتية للكهرباء وجعلها جاهزة لإدخال مصادر الطاقة الحديثة والمتجددة. هذه الاعتبارات تكمن في التوجّه العام الذي فرضه خطاب القسم، والذي وضع خارطة طريق واضحة للمستقبل. فهل ستكون حكومة نواف سلام قادرة على رفع التحدّي في قطاع إستنزف كل قدرات الدولة؟
جاسم عجاقة - "الديار"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|